10 يوليو، 2025

الشرق الأوسط نيوز

آخر الأخبار تعرفونها فقط وحصرياً على الشرق الأوسط نيوز موقع اخباري شامل يدور حول العالم

قصة”الجسر”بقلم إبراهيم معوض

الجسر

قصة قصيرة بقلم/إبراهيم معوض

حاملا من الزاد ما يكفيه لنصف يوم، منتعلا بلغته المهلهلة مختبئأ خلف ثيابه الرثة قابضا على ساق فأسه. وعند الجسر الخشبي توقف كي ينضم إلى طابور طويل من مماثليه، تطابقت الوجوه والثياب وكأنهم مقبلون جميعا على إقامة حفل تنكري.

جلس بجانب السور دون أن يكلم إنسانا؛ فما جدوى الحديث وقد ينقطع دون سابق إنذار بمجرد قدوم أحد المزارعين يطلب نفرا أو احد البكوات يطلب عاملا. أخرج رغيفه الجاف وبلله ببعض المش ودسه في حلقه مباشرة كي لا يمر على حاسة تذوقه، يكفيه أن يسكت به قرقرة جوفه.

بزغت الشمس من خلف الدور تخمش وجوههم بأظافر أشعتها، وكلما زحفوا إلى ظل الأشجار تقهقروا الى الجسر خائفين؛ فقد يفوتهم قدوم أصحاب الاعمال دون ان ينتبهوا الى اماكنهم الجديدة رفع رأسه من فوق رغيفه وصوبها الى صدورهم وقال متهكما:
– عيال طرية، روحوا استخبوا تحت السجر ولو جه زبون هنادي عليكو.
انطلقوا، فلم ينتظر منهم الثناء على شهامته، مص شفتيه وعاد إلى تكسير لقمته.

رفع بصره على وجه مليح لم تنل الشمس منه لجلوسه الدائم خلف الحوذي فوق كارتة مذهبة، لم يميز رجولته إلا من صوته الذي يحمل بعضا من خشونة:
– فين باقي الأنفار؟ فقال وهو يشير إليهم:
– موجودين .
– وراكم شغل كتير؛ فدادين وفدادين يا بلدينا.
– وأنا ورايا رجالة تبدر الزمام كله.
– تمام اركب معايا عشان تقابل البيه وتتفق معاه.
-مدد .. مدد..

ترك بقايا رغيفه كما ترك الأنفار ممدين في ظل الشجر مثل قطط نائمة، ألقى عليهم نظرة حانية وكأنما يقول: سأعود إليكم بأعمال ترضيكم. لم ينتبه لمغادرته أحد، إلا ذلك الجرو الذي كان ينتظر قيامته لينقض على لقمته، وكز الحوذي الحصان بطرف عصاته فطار بثلاثتهم، فاشتم الجرو الطعام ثم تركه متأففا وراح يركض خلفهم وهو يعوي.

تدحرجت الكارتة فوق طريق غير ممهدة ولكن عوامل الحركة والسكون لم تنجح في زحزحته من مكانه، راسخ رسوخ شجرة الجميز، في حين أن الرجل المليح يتراقص على وقع السكون والحركة مثل غازية المولد. يخرج منه الصوت متقطعا والأخر ما زال يستمع، علم أنه كان ذات يوم نفرا مثله حتى قربه البك وجعل منه خادمه الخاص، حتى هذا الخبر لم ينجح في جعل شفاهه تهتز، لا بأحلام ولا بكلام؛ ولكنه قال في نفسه: مالي وأحوال الناس وتقلبات الدهر طالما أن لقمة المش تكفي.

وقبل أن يمثل بين يدي البك كان الجرو قد سبقه يلهث، فألقى عليهما البك نظرة مماثلة وابتسم، ثم سرعان ما تكلم كي يتم عقد الصفقة، أتمها نيابة عن الرجال على خير ما يكون وقبل أن ينصرف لإحضارهم استأذنه في قطعة طعام فأذن له فالتقطها وألقاها إلى الجرو، فتجهم وأمره بالإسراع.

قام الرجال قيامة أهل الكهف، فزعوا حين وجدوا أن الأشعة قد لانت؛ فهذا دليل على قرب ذهاب النهار وهم لايزالون بلا عمل، انطلقوا نحو الجسر، فزعوا أكثر حينما وجدوا لقمته ولم يجدوه، طاشت الأسئلة بالعقول: أين ذهب وتركهم؟ انتظروا قليلا، تبودلت اللعنات والاتهامات، حتى أشعة الشمس قد نالها من السباب حظا. انتشروا حول الجسر بحثا عن آثر له توصلوا بعد طول بحث إلى أنه قد خان الأمانة وحصد الأعمال وحده. تعددت الأصوات والعبارات:
– طول عمره خاين.
– عض قلبي ولا تعض رغيفي.
– يا واكل قوتي يا ناوي على موتي.
تعددت الاقتراحات بين تكسير عظامه أو طرحه أرضا ولما عاد أحد الباحثين يحمل فأسه ويخبرهم أنه وجدها عند مرقدهم، لم يعره أحد اهتماما بل زادوا مقترحا أن يسلبوها.

سبقه الجرو وانزوي في مكان قريب، ولما أبصر الغضب يلهب وجوه الرجال تيقن من عبثية مقامه هنا.
قبضوا على سيقان معاولهم بقوة غاضبة تزداد كلما ألقى به الفراغ نحوهم وهو يبتسم ابتسامة غانم، لحظات من الصمت والترقب تفصلهم عنه لا يقطعها إلا نباح الجرو بصوت يشبه البكاء.

تمت
ـــــــــــــــــــ
إبراهيم معوض