تقرير – عماد إبراهيم
جميع أفراد الأسرة ابطال بمعنى الكلمة ، ويستحقوا الإشادة جميعًا .
الأم :حنان عزت محمود ممرضه عمليات بمستشفى كفر الدوار العام
والإبنة : منار نميري توفيق
عندما وصلت إليَّ الرسالة الخاصة بقصة اليوم ، رغم سطورها القليلة ، توقفت عندها كثيرًا وأنا أقرأها ، ووجدت الدموع تنساب من عيني لشدة ما أقرأ ، وكلما أقرأ سطرًا جديدًا ، أجد نفسى أعود لقراءة السطر السابق ، ويأخذنى التفكير فى كيفية كتابة تلك القصة ، وأقول لنفسى من هنا سأبدأ سرد الحكاية ، هذا هو الموقف الأهم ، هنا نقطة البداية ، وتكرر ذلك معي عدة مرات ، فالقصة مليئة بالمواقف الإنسانية المتعددة ، وظللت هكذا فترةً من الوقت ، حتى وجدت نفسى أشرع فى الكتابة ….
وبدايتنا ستكون مع الإبنة منار….
منار فراشةٌ تتطاير وتتنقل بين الغصون ، وتبعث الفرح والمرح فى كل مكان ، بل هى زهرة برية يفوح عطرها فى كل الأرجاء ، حباها الله بصفاتٍ قلما تتواجد فى بنت بمثل عمرها ، فهى تتمتع بالجمال وبالروح الجميلة وبخفة الدم ، غير الأدب والأخلاق الجمة والذكاء والتفوق الدراسي وغيرها وغيرها من الصفات الطيبة .
وهى البنت الوحيدة للأسرة ولها شقيق يصغرها بعامين ، والأسرة الصغيرة يخيم عليها مشاعر الحب والدفء الأسري ، فالأب والأم يعملا على أن يوفران لأبنائهما كل سُبُل الراحة من أجل الإنتباه لدراستهما ، والتفوق فيها .
ويشاء القدر أن تصاب منار بمرض مناعي ( الذئبة الحمراء ) وهى فى مرحلة الثانوي وبدأت الحالة فى التدهور المستمر ، وذات مرة اختل توازنها اثناء امتحان العملى وسقطت من الدور الثالث ، وأصيبت بكسر متفتت فى الكعب وهو من أصعب انواع الكسور بشهادة استشاري العظام ، مما أعاق استكمال دراستها فى معهد التمريض لمدة سنة كاملة ، ثم سرعان ما استرجعت منار قواها وكمَّلت المسيرة. وتفوقت علميًا وادبيًا ، وشهد لها الجميع بذلك .
واذ بالكورونا تظهر وتتغير حياة الناس جميعًا ومن ضمنهم هذه الأسرة الصغيرة ، فالواجب نادى على جميع جنود الجيش الأبيض ، وممن لبُّوا نداء الواجب فورًا كانت أم منار ، أو حنان بطلة قصة الليلة .
دخلت حنان الحجر فى مستشفى كفر الدوار وهى تترك وراءها تركة ثقيلة محملة بالهموم ، فالإبنة المريضة التى تحتاج لرعاية طبية خاصة ، ولرعاية أسرية من نوع مختلف ، والإبن المقبل على الثانوية العامة ، والزوج وجد نفسه هو المتكفل برعاية المنزل فى غياب زوجته ، وأصبح هو المنوط به كل شئ فى المنزل ، من رعاية الأبناء ، إلى أعمال المنزل وغيرها وغيرها .
وكلما كانت حنان تدخل الحجر لتؤدي عملها تجاه مرضى الكورونا ، كانت منار تشجعها وتوصيها خيرًا بالمرضى ، وتقول لها ( انتى بتمَرَّضي الناس هناك يا ماما ، وانا ربنا هنا هيحميني ، وماتقلقيش عليا ، ربنا عالم بحالنا وحيلطف بينا وترجعي لنا بالسلامه )
وكانت حنان كلما رجعت من الحجر إلى منزلها ، تجد منار على قدر المسئولية رغم مرضها الشديد ، وتجدها تشحذ من عزيمتها وهمتها وتقول لها ( انتى بتعملى هناك أكبر خير ممكن يتعمل فى الكون يا ماما ، واحنا كلنا وراكى وماتنعيش همنا ابدا ) .
وكانت حنان تعلم يقينًا ما يصيب منار فى غيابها من نوبات الألم الشديدة ، وكانت تعاني أشد المعاناة ، بسبب عدم استقرار حالتها ، وهنا يظهر الموقف البطولي لرب هذه الأسرة ، فالأب هو من يسهر ويراعي ويُمَرّض الإبنة المريضة ، وهو من يقوم بكافة احتياجات المنزل ، وكان ينبه على ابنائه مشددا بعدم إخبار أمهم بحالة منار الصحية ، عندما تتصل بهم من الحجر للإطمئنان عليهم وعلى صحة منار .
حتى أنه ذات يوم كانت منار بين الحياة والموت وعانت أشد المعاناة ، ولم يجدوا مستشفى يدخلوها فيها ، فقد كانت جميع المستشفيات مغلقة ، ورغم هذا قاموا بإخفاء الأمر عن أمهم حتى لا يُشغلوها بأمور المنزل وهى تكافح مع زملائها فى مجابهة الكورونا بالحجر .
وكانت حنان تعتبر أن منار هى من فى الحجر ، فهي تشعر فى داخلها بأنها مقصرة مع ابنتها ، لكنه نداء الواجب الذي لا يتنصل منه أحد ، ولا يرفضه إلا كل جبان .
وذات يومٍ لم يكن فى الحسبان ، انطفأ النور الذى كان يضوي فى منزل هذه العائلة الصغيرة ، وبارح الفرح والمرح المكان بلا رجعة ، وذهبت العصفورة الصغيرة بلا عودة ، وآن للروح الطاهرة أن تذهب إلى بارئها ، وعشش الحزن في أرجاء المكان ، وغابت الضحكة التى كانت تهز أرجاء كل ركن من أركان هذا المنزل الصغير .
هكذا هو الموت ، فكان مثلما يحصد أرواح الكثيرين فى الحجر بسبب مضاعفات الكورونا ، وتراه حنان كل يوم وهي فى المستشفى ، حصد روح منار فى المنزل بسبب آخر غير الكورونا ، فتعددت الأسباب والموت واحدٌ ، كما يُقال ، ورحلت منار وهى فى الشهور الأخيرة للتخرج من معهد التمريض ، وتركت وراءها أمٌ تعانى كل ويلات الألم ، وأبٌ ملأ الحزن قلبه وأصبح يتنفسه بدلاً من الهواء ، وأخٌ فقد الأخت الوحيدة له فى الحياه ، وهو مقبل على امتحان الثانوية العامة ، وأمامه ايامٌ قليلة ليؤدي الإمتحانات ومازال يعيش صدمة وداع أخته .
يالا عجائب القدر ، عندما يكتب روايته الحزينة على جدار هذه الأسرة الصغيرة ،
ما أصعب التفكير فى حال هذه الأسرة ، وما آل اليه حالها بعد فقدان منار .
الأم عليها أن تواصل عملها بالحجر لرعاية المرضى ، والأب عليه أن يذهب لعمله ، والإبن عليه أن يواصل دروسه لكي يدخل امتحانات الثانوية العامة .
كل هذا مطلوب من هذه الأسرة المكلومة المطحونة والمعجونة بماء الحزن والدموع .
عفوًا أعزائي …
لا أستطيع أن أكتب أكثر من هذا ، فحزني على منار التى عرفتها وأنا أكتبها بين السطور ، وحزني على حال هذه الأسرة ، لا يضاهيه حزن ، وادعو الله سبحانه وتعالى لمنار بالمغفرة وأن يجعلها فى أعلى عليين مع النبيين والصِدِّيقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا .
كانت للأم رغبة فى رسالتها وهو أن يتم تكريم منار بدلًا منها ، وقدّمَت اعتذار لمنار عن انشغالها عنها فى أوقات وجودها بالحجر .
وأقول لها : سيدتي … لقد قمتِ بواجبك تجاه المرضى ، وقدمتِ كل ماتستطيعين لمنار ، وليس بأيدينا شئ مع الموت ، وواجبٌ علينا جميعا تكريمك وتكريم منار وتكريم الأسرة كلها ..
وبارك الله فى ابنكم وجعله عوضًا لكم .
وأنتم حقًا أسرة استثنائية بمعنى الكلمة .







More Stories
برعاية الدكتور مينا يوحنا.. اجتماع موسع لمنظمة الضمير العالمي لحقوق الإنسان بكفر الشيخ لتعزيز الوعي المجتمعي والمشاركة الوطنية
إتحاد “شباب العمال” يشكل غرفة عمليات مركزية وتواصل أعمالها على مدار الساعة لمتابعة سير العملية الانتخابية
كلمات بلا أفعال لن تحقق العدالة المناخية .. تحذير رسمي من الدكتور مينا يوحنا