كتب – عزت محروس
ركز معايا شوية في العظمة دي، لأول مرة من 3000 سنة بيرجع “طريق الكباش” المقدس للحياة من تاني، أقدم ممر عرفته البشرية في التاريخ، بيخرج من تحت الأنقاض حرفيًا، على التليفزيون بث مباشر لقلب عاصمة مصر القديمة، طيبة، أرض الآلهة والملوك، الموضوع المرة دي مختلف تمامًا عن موكب المومياوات، اللي كان أقرب لطقس جنائزي لملوك مصر العظام عبر الزمن، بنحتفل بافتتاح طريق الكباش..
بص يا سيدي، في مدخل معبدي الكرنك والأقصر طريق اسمه طريق الكباش، الكباش دي بتمثل جسم أسد ورأس كبش، وهو الرمز المقدس للمعبود الشهير آمون رع، موجود ربما لحماية المعبد وإبراز محوره، والمصري القديم أطلق على الطريق دا اسم “وات نثر” بمعنى طريق الإله، لكن الجزء اللي في مجمع معابد الكرنك فعرفه باسم “تا ـ ميت ـ رهنت”
وترجمتها الحرفية طريق الكباش، ويعتبر من أقدم الآثار اللي تركها القدماء، الطريق دا كان بالنسبة للمصريين القدماء بيعتبر أثر قديم أصلًا، ﻷنه في اللأساس أقيم من أكتر من 5000 سنة، يعني تقريبًا في الفترة اللي جت بعد توحيد الملك “مينا” للقطرين، وكانوا 1200 تمثال علي طول الطريق البالغ 2,700 كم وعرضه 76م، بيبدأ من معبد الأقصر
وبيتفرع لفرعين عند معبد “موت”، عشان يحضن أكبر معبد في العالم وهو مجموعة معابد الكرنك، اللي بتتكون من 10 صروح اتبنت في عصور مختلفة، الفرع الشرقي من الطريق بيوصل لحد الصرح العاشر في الكرنك، وعلى طول الطريق في الجنبين تماثيل شكل أبو الهول، والفرع الغربي بيمر في اتجاه معبد “خونسو” ودا الجزء اللي بتاخد فيه التماثيل شكل الكباش..
وأنشأ ملوك مصر القديمة في طيبة الخالدة الطريق من بداية الشط الشرقي للنيل، بتحف بيه 600 تمثال على كل جانب، وبيمتد عشان يربط بين معبدي الأقصر والكرنك، من آﻻف السنين كانت بتمشي فيه المواكب المقدسة للملوك والآلهة، في احتفالات اعياد الاوبت -أو الإبت- كل سنة، أعياد الحياة والزواج والفيضان والحب،
بيتجمهر شعب كيمت على ضفتي الطريق، المراكب بتنقل المصريين من كل مكان عشان يحضروا وسط الأزياء والألوان والزينة، لأنهم بيعتبروا وصول فيضان النيل بالطمي هو الخير والبركة والتنمية، فرصة للبقاء، وبيبدأ الاحتفال بخروج تماثيل ثالوث طيبة وهما المعبود المصري القديم “آمون” وزوجته “موت” وابنه “خونسو”! في مراكبهم الذهبية
متشالين على أكتاف صغار الكهنة، فكان الطقس التتويجي أو الديني بيلزم الملك إنه يمشي فيه، بيتقدمه علية القوم من الوزراء وكبار الكهنة ورجال الدولة والحاشية، والجنود على خيولهم ودروعهم وسيوفهم ورماحهم، ورا الزوارق المقدسة اللي عليها تماثيل الآلهة..
وبيصطف أبناء عوام طيبة علي الجانبين وبينشدوا مع فرق الأناشيد، ويغرقوهم بسيل من الورود، ويرشوا مياه البحيرة المقدسة، ويقدموا القرابين ويذبحوا الذبائح، بتمشى بمحاذاة الموكب عربية الملك متأمنة بحشود غفيرة من الجنود، وبتسير مراكب مملوءة بكل أنواع الهدايا والقرابين والبخور والعطور والكنوز الثمينة، و بتسبق خطواتهم خطوات الكهنة اللي بيقودوا ترتيل الأناشيد الدينية، مع فرق الراقصات والعازفين على الآلات الموسيقية،
ودا اللي هيتعمل له محاكاة في حفل افتتاح طريق الكباش الليلة، بعد آلاف السنين كم الطمس والتشويه المتعمد وغير المتعمد، من جور البناء والهدم والردم، كل دا بيتنفض عنه تراب الزمن، وبيتم الكشف عنه الليلة وبنشوف احتفال الحياة مرة تانية..
في بداية نشأة الطريق كانت بتحيط الكباش أحواض زهور، وفيها مجاري لمياه النيل عشان ترويها، وبيتوسطه أرضية مستطيلة مفروشة بأحجار الجرانيت، ودي لتسهيل المشي عليه وبين كل تمثال وتمثال فجوة حوالي 4 متر، وتم نحت التماثيل من كتلة واحدة من الحجر الرملي، لها كورنيش نقش عليه اسم الملك والقابه على قاعدة مكونة من 4 مداميك من الحجر،
وبيعتبر مجمع معابد الكرنك هو أعظم دور عبادة في التاريخ، لك أن تتخيل إن أعمال التشييد والبناء فيه كانت مستمرة لمدة 2000 سنة متتالية، أيوة، قرأت الرقم صح، 2000 سنة من العبادة اشترك فيها أكتر من 30 ملك مصري قديم مختلف، بالمناسبة اسم “الكرنك” دا جا بعد الفتح الإسلامي، ﻷن الكرنك تعني الحصن أو المكان الحصين، ومع توالي الأسر المصرية الحاكمة لكيمت أقيمت فيه 10 صروح أو معابد منفصلة متصلة، اتغيرت معالم المعبد، ولكن تم الحفاظ على طريق الكباش ﻷنه دا طريق الإله..
وكانت طيبة العاصمه الإداريه لمصر العليا في عهد الاسرة المصرية السادسة 3000 ـ 2100 ق.م، ومع وصول ملوك الأسرة ال11 لحكم كامل مصر، كانت أرض الكرنك مقدسة سلفًا، وكان فيها شكل من أشكال عبادة الإلة آمون قبل توحيد البلاد،
اللي كانت لها أثر مباشر في زيادة قوة وثروة آمون كإله ودمجه تدريجيًا مع إله الشمس رع، وتعتبر المصلية البيضا ومحكمة المملكة الوسطى هي أقدم بقايا المباني داخل منطقة المعبد، اللي بدأ الملك “سونسرت الأول” في بنائها في الفترة من 1971 ق.م لحد 1926 ق.م، كمحطة وصول لطريق الكباش..
عصر الدولة الحديثة هو العصر الذهبي للكرنك، بسبب إن ملوك الأسرة ال18 كانوا أول من أهتموا بعبادة آمون بعد ما دُمج مع رع فأصبح “آمون رع”، وعبدوه كإله الحرب، وبما أن الأسرة ال18 وال19 اشتهروا بالتوسعات العسكرية، فكان لابد من الاهتمام بمعبده لأخد البركة منه في حروبهم، فكانت الجيوش بتخرج منه قبل التوجه مباشرة لميادين القتال،
وخصوصًا بعد ما قام الملك “أحمس” بطرد الهكسوس وتحرير العاصمة طيبة، وبعد ما مات سنة 1525 ق.م تولى ابنه “أمنحُتِب الأول” تاني ملوك الأسرة ال18، وحكم لحد سنة 1504 ق.م. ودي شهدت فترة العناية الفائقة بممر الإله، ب”طريق الكباش”، وأقام القاعة المقدسة في بدايته اللي تحولت لمعبد للثالوث الإلهي، وهي دي اللي أقيم مكانها معبد الأقصر الموجود حاليًا، يعني معبد الأقصر ما كانش موجود خلال الفترة دي، وهحكيلك كمان شوية حكاية بناء المعبد العظمة دا..
في خلال أكتر من قرن من الزمن تهدمت أجزاء من الكباش واتغيرت معالمها، وتداعت القاعات في المعبد القديم، لحد ما جه عصر “أمنحتِب التالت” تاسع ملوك الأسرة ال18، ودا واحد من أعظم حكام مصر على مر التاريخ، حكم مصر في الفترة ما بين 1391 ق.م. – 1353 ق.م، كان عنده مشكلة أول ما تم تنصيبة ملك، وهي إن أحقيته للعرش ما كانتش واضحة طبقا للتقاليد المصرية
، اللي كانت بتنص بإن الملك لازم يكون ابن ملك وأميرة من سلالة نقية، وإذا كانت سلالتة مش نقية فبيكتسب أحقيته للعرش بالزواج من الابنة الكبرى للملك السابق، و”أمنحتب التالت” كان ابن الملك بس من أم مش مصرية للأسف، وكمان زوجته كانت مش من سلالة ملكية أصلًا، يعني مش بينطبق عليه الشرطين، ودا عمل تشويش عليه وشوشرة غشيمة بدأت تطلع عليه، وعاندته جموع من الجيش وفيالق مسلحة كاملة مدعومة من الكهنة..
وفعلًا، لما تولى الحكم حصلت شوية اضطرابات وقلق معاه، وناس تطلع تعارض والكهنة متضايقين وبيتلامزوا بأصل أمه وبتاع، فكانت الأمور بتهرب من بين إيده والدولة في حالة ثورة، وزادت تخوفاته وقلقه إن الجيش ينقلب عليه أو الكهنة تعلنه غير جدير بالعرش، وكدا يتم عزله عن حكم مصر،
وعشان كدا لجأ لحيلة إحياء تبجيل أسرته بالإله، يعني ينسب نفسه للإله مباشرة، دا عن طريق بناء معبد الأقصر، على أنقاض القاعة المقدسة اللي كان جده “أمنحتب الأول” عملها، وبالحيلة دي أكد شرعيته للعرش بإثبات نسبه للإله آمون نفسه، وتسجيل ولادتة المقدسة على جدران الغرفة الشهيرة بالمعبد والمعروفة بغرفة الولادة، وهو بكدا بيرضي كهنة آمون فتقبلوه ملك شرعي لمصر، وخصص المعبد للإله آمون ولصورة من صوره، اللي بتظهر آمون-رع كإلة للخصب ولدورة الحياة..
وهنا أعاد الملك “أمنحتب التالت” بناء طريق الإله مرة تانية بالشكل المتعارف عليه، بالتوازي مع بداية تشييد معبد الأقصر، ودا اللي خلاه غير في أساليب المعمار المصري المشهورة، ﻷن فيه ملاحظة إن المعماريين القدماء لما أنشأوا المعابد على الجانب الشرقي للنيل، كانوا بيبنوها في اتجاه محور غربي شرقي، وإذا شيدوها على الجانب الغربي بيبقى في اتجاه محور شرقي غربي
، ومع ذلك فإن معبد الأقصر -اللي في البر الشرقي- تم بناؤه في اتجاه محور شمالي جنوبي، يعني مختلف تمامًا، ودا ليه بقى؟! عشان يكون على خط واحد مع مجموعة معابد الكرنك اللي بيقع في الشمال منه، ومع طريق الكباش بتاع الإله اللي بيربط بين المعبدين، وبكدا تحولت طيبة لمعبد ضخم بتجتمع فيه كل أشكال العبادة، وبقت عادة عند المصريين لما بيتجمعوا بيمسكوا قطع صلصال على شكل أذن، رمز لأذن الإله عشان يوشوشوه بدعواتهم وأمنياتهم..
ولكن اضطر معماري الملك “رمسيس التاني” بعدين لتغيير محاور الأبنية اللي أضيفت في عهده، وكمان الصرح والبهو لمعبد الملك “أمنحتب التالت”، لما أعادوا تشييد المقصورة الثلاثية الأقدم للملكة “حتشبسوت” والملك “تحتمس التالت”، فأقام الصرح اللي برا والتمثالين والمسلتين، وبالمناسبة لما تبص في الصورة اللي هاحطها لكم في الكومنتات،
هتلاقي باقي مسلة واحدة بس منهم، ﻷن “محمد علي باشا” خلع التانية وأهداها لفرنسا في القرن ال18! أصل دي عادة حكام مصر، بيعتبر كل اللي فيها ملكه، زي ما عبد الناصر فكك معابد كاملة وأهداها لدول تانية، ودي حدوتة ممكن نكتبها بعدين، عمومًا كان النصيب الأكبر في تنفيذ تجديد الطريق بيرجع للملك “نختنبو الأول” مؤسس الأسرة ال30، وهي آخر أسرات عصر المصريين القدماء..
هو اللي نحت التماثيل على هيئة أبو الهول شكل جسم أسد ورأس إنسان، ودي اللي موجودة في معبد الأقصر لحد النهارده، وأنا في 2009م لما زرت الأقصر لفت نظري الأمر دا، إن فيه تماثيل أبو الهول في معبد الأقصر وتماثيل الكباش في معبد الكرنك، وبعد كدا عرفت التغيير دا ليه زي ما شرحت لكم في المقال، الملك “نختنبو الأول” كان محب وعاشق لمدينته، “طيبة”، الهيام في عاصمة مصر ظهر في كلامه عنها، لما قال:
– ” هناك في طيبة المصريه حيث تلمع أكوام الذهب، طيبه ذات المئة باب ، حيث يمر في مشية عسكريه ، اربعمائة من الرجال بخيلهم ومركباتهم، من كل باب من أبوابها الضخمة”.
مع الزمن اندفن الطريق دا تحت عشرات الأمتار من التراب، اتبنى فوق المسار الأثري ده بيوت ومساكن وجوامع وكنايس وحتى مباني حكومية في المنطقة المعروفة بـ “نجع أبو عصبة”
، وقامت أشغال حفر كتيرة للبحث عنه، فكانت أعمال التنقيب طبقا لتسلسل زمني بدأ من الدكتور “زكريا غنيم” سنة 1949م لما قام بالكشف عن 8 تماثيل لأبي الهول، وبعده الدكتور “محمد عبد القادر” 1958م- 1960 م لما قام بالكشف عن 14 تمثال لأبي الهول، والدكتور “محمد عبد الرازق” 1961م – 1964 اكتشف أكبر عدد وكان 64 تمثال، وقام الدكتور “محمد الصغير”
بأعمال تنقيب من منتصف السبعينيات لحد سنة 2002م، بالكشف عن الطريق الممتد من الصرح العاشر حتى معبد موت، والطريق المحاذي باتجاه النيل، وقام “منصور بريك” سنة 2006م بإعادة أعمال الحفر للكشف عن باقي الطريق، بمناطق خالد بن الوليد وطريق المطار وشارع المطحن، بالإضافة لقيامة بصيانة الشواهد الأثرية المكتشفة ورفعها معماريا، وتسجيل طبقات التربة لمعرفة تاريخ طريق المواكب الكبرى عبر العصور..
الحجر الواحد من الصروح دي بيساوي تاريخ البشرية، عارفين في سنة 1834م تمت سرقة محتويات كتيرة من المعبد وهربوها لفرنسا، والقطع المسروقة موجودة لحد النهارده في متحف اللوفر في باريس، ولما كترت أعمال النهب تم إنشاء مصلحة الآثار المصرية سنة 1858م لمراقبة الآثار والحفاظ عليها، لك أن تتخيل إن المسلات ما كانتش عريانة كدا وخلاص، ﻷ، دي كانت رؤوسها المدببة دي عليها طبقة ﻻمعة مزيج من الدهب والفضة، عشان يظهى رأس المثلث متوهج تحت الشمس، وكله اتسرق طبعا، والأرض بتنزف وبتبكي تاريخها اللي بيتشوه بفعل فاعل..
ولكن أخيرًا.. بيرجع الطريق العريق دا للوجود، مصر القديمة بترد فيها الروح وتطلع من تحت الأنقاض، وما تفكرش إن دا كان مشروع بسيط وسهل، لأ، دا عشان تتم عملية إحياء الطريق القديم كان لابد من إزالة كل التعديات اللي على مساره، كان لا بد من إرادة سياسية حقيقية، تتحمل تكلفة نزع الملكيات وتعويض أصحابها وتوفير أماكن بديلة ليهم،
غير مشقة الكشف عن الطريق الأثري القديم وترميمه وتشييده، وترميم الكباش اللي تم اكتشافها وكان أغلبها متدمر، كان مشروع إحياء طريق الكباش مجرد حلم صعب التحقيق، ومن سنتين بس الدولة قررت تخوض التحدي وتكسب الرهان، وبيتحقق الحلم، ورجع المشروع لأرض الواقع، بعد ما تم إزالة مئات المباني الخاصة والعامة، واتنفذت أعمال الحفر الأثري المتخصص، واحدة واحدة اتضحت معالم الطريق لحد ما اكتمل..
المرممين المصريين قاموا بملحمة بنائية عظيمة، مهمة إنقاذ تاريخية، من ترميم وتجميع ومعالجة كباش أعمارها من عمر الأرض تقريبًا، رحلة شاقة في بطن التاريخ لإنقاذ آلاف السنين من المجد المصري القديم، لفوا البلاد وكفور ونجوع وجمعوا عشرات الكباش المنسية المهملة، مع عملية ترميم معبد الكرنك لإزالة الاتساخات وعوامل التعرية اللي حصلت له عبر مئات السنين، وتم إعادة صبغة الألوان الأصلية للنقوش الأثرية المحفورة على أعمدته الضخمة،
ودلوقت تقدر تاخد المسافة من معبد الأقصر لمعبد الكرنك ماشي على رجلك، كأنك في جزء من أجزاء الزمان المصري القديم، بدون الخروج من الأجواء الأثرية الخالصة، هتتنقل بغمضة عين لطيبة عاصمة كيمت، بجانبك النهر المقدس وفيه المراكب وعلى الجوانب الأضواء الملونة والبالون الطائر، كأنك عايش في طقس ديني أو سياسي مصري خالص، لحد ما توصل للبحيرة المقدسة في معبد الكرنك..





More Stories
إعادة وإلغاء في دوائر برلمانية… والهيئة الوطنية تعيد تشكيل المشهد الانتخابي
جدل في الدائرة الرابعة بالفيوم بعد الإعلان المبدئي للنتائج… والأنظار تتجه للّجنة العليا
وشهد شاهد من اهلها